عثمان ميرغني يكتب .. علاقة الاحتواء الثلاثي
في”حديث المدينة” قبل يومين تحدثت عن الفرق بين (القلب) و (الفؤاد) في القرءان الكريم.. وقلت أن القلب مقصود به مجموعة الأحاسيس و الدوافع و النزوات التي تشكل القوام المعرفي لدى الإنسان.. وفي علوم الكمبيوتر نحن نسمى ذلك (نظام التشغيل).. (Operating System)..
وقلت أن (الفؤاد) هو مَجَمع حواس الإنسان.. مركز جمع المعلومات من الأطراف (السمع والبصر والشم وغيرها).. في الآية (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) القصص (10)..أم موسى لما ألقت برضيعها في البحر أصابها خوف وجزع كبيرين.. شل تفكيرها تماماً.. صوَّر ذلك القرءان بقوله ( أصبح فؤاد أم موسى فارغاً) تعطل مركز تجميع معلومات الحواس.. فالحواس تظل عاملة.. العين تبصر والأذن تسمع.. لكن بلا فائدة لأن (مركز تجميع معلومات الحواس) أصابه الشلل من عظم الجلل ( ما كذب الفؤاد مارأى) النجم “11”.
أسمحوا لي اليوم أن أكمل الدائرة والمعنى بربط الموضوع بكلمة (الصدر).
ما الذي يرمي إليه القرءان من استخدام كلمة (الصدر).. هل هو ذلك الجزء الذي يقع بين الحنجرة والبطن.. ويتوسطه القلب.. كما ذهبت إلى ذلك غالبية التفاسير؟
(الصدر) هو قاعدة البيانات Database تتسع -تنشرح- أو تضيق (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا) الأنعام (125).
ويتشكل “الصدر” -قاعدة المعلومات- بما يتجمع فيه.. فهو (وعاء) موسوم بما فيه.. (وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ).. (بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) العنكبوت (49).
وحدد القرءان “الفيروس” الأخطر الذي يدمر هذا (المخزون) الذي في الصدر (قاعدة المعلومات) وهو فيروس (الغِل، والكِبر) (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) الحجر (47).. (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ) غافر (56).
(الغل) هو الحقد الكامن والعداوة.. و(الكِبر) هو العظمة والتجبر.. وبالتأكيد الصفتان هما أس البلاء والوباء.. أدوات الشر المستحكم في عالم البشر منبعه الغل والكبر.
الآن لنجمع الثلاثة.. (الفؤاد) و(القلب) و(الصدر)..
المسلم الذي يتعرض للتهديد فيضطر للتظاهر بالكفر لا إثم عليه.. لأن (قاعدة معلوماته) سليمة معافاة وهو مجرد طلاء ظاهري باللسان.. (وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ) النحل (106).
المؤمن الحقيقي لا يجعل الشعائر والعبادات الدينية مجرد (طقوس) يجمع بها الحسنات مثل ما يفعل الطفل عندما يضع النقود في الحصالة.. أو العميل الذي يودع أمواله في البنك.. فليس ذلك مقصد الدين الإسلامي.. أن يحول البشر إلى صائدي وجامعي (حسنات) رقمية حسابية.. بل الهدف الأسمى للدين ترقية وتطهير مسلك الإنسان وعلاقاته بالآخر. .(من حيث هو آخر إنسان أو حيوان أو نبات أو حتى جماد)..
والعبادات من صلاة وصوم وحج وغيرها تستهدف ترفيع المسلك الإنساني بالقلب السليم (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك)، وثبات الفؤاد (كذلك لنثبت به فؤادك).. وانشراح الصدر (قال ربي اشرح لي صدري)..
(السلوك الإنساني) يدار في حركته وسكونه بالإدراك الذي جمعه (الفؤاد) وغذى به مخزن المعارف (الصدر) ليصنع موجهات Instructions القلب.
هذه الثلاثية(القلب-الفؤاد- الصدر) فيها علاقة احتواء مركبة تجعل منها مكوناً واحداً Entity .
تقابلها ثلاثيتان آخريان بنفس علاقة الاحتواء..
وهما :المشكاة – المصباح- الزجاجة.
(مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ ) النور “34”.
علاقة نسبية فيها تداخل إحتوائي.. المشكاة تحتوي الزجاجة.. والزجاجة تحتوي المصباح.
ثم العلاقة بين ثلاث (بحر- موج – سحاب) في الآية (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ) سورة النور (40).. نفس علاقة الاحتواء.
هذه الثلاثة ثلاثيات.. ترسم فكرة واحدة.. خيط متصل يربط بين (الفؤاد، والقلب، والصدر) من جهة و(المشكاة، والمصباح، والزجاجة) من جهة .. و(البحر، والموج، والسحاب) من جهة ثالثة.
علاقة ثلاثية مركبة تلخصها الآية (يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث) الزمر “6”، ظلمات الاحتواء الثلاثي، بذات الاحتواء في المكونات الثلاثة سالفة الذكر.
نواصل ..